الهوية الوطنية في الدساتير السورية و إشكالية الإقصاء الدستوري للكورد
539316908_122147875544772273_2507415174820423343_n
آخرون يقرأون الآن

منذ إعلان المملكة السورية العربية عام 1920 بقيادة الملك فيصل الأول، شكلت مسألة الهوية الوطنية واحدة من أكثر القضايا إشكالية في بناء الدولة السورية الحديثة، فقد حملت الدساتير السورية المتعاقبة نهجاً يقوم على ترسيخ الهوية العربية باعتبارها التعبير الوحيد عن الدولة وهو ما انعكس بشكل مباشر على وضع الكورد في الدولة السورية المستحدثة.

ان دستور 1920 للمملكة السورية العربية حمل اسم “العربية” منذ البداية أي أن هوية الدولة محددة سلفاً بالعروبة و رغم وجود مكونات كبرى مثل الكورد وغيرهم ثم جاء دستور 1930 في ظل الانتداب الفرنسي، وعلى الرغم من أن هذا الدستور كان أكثر حيادية من الناحية القومية حيث لم يذكر مصطلح “العربية” في اسم الدولة بشكل صريح واكتفى بوصفها “جمهورية نيابية”، إلا أن هذا لم يوقف المسار السياسي نحو ترسيخ الهوية العربية. ففي حين أن الصياغة في دستور 1930 كانت حيادية، فإن النزعة نحو ترسيخ الهوية العربية كانت حاضرة في الخطاب السياسي للدولة السورية منذ وقت مبكر، حتى لو لم يتم إدراجها في نص الدستور في تلك المرحلة المبكرة. تأثير هذا النهج الدستوري على وضع الكورد ظل قائماً لأن سياسة الدولة في العقود اللاحقة سارت نحو تثبيت الهوية العربية، ووصلت الى ذروتها مع دساتير ما بعد الاستقلال، خاصة دستور 1950 ودستور 1973، اللذين قاما بتعريف الدولة بشكل صريح بأنها “جمهورية عربية”. هذا المسار هو ما أدى إلى تهميش الهويات والمكونات الأخرى وإصدار تشريعات تمييزية لاحقاً.

بعد خروج القوات الفرنسية صدر دستور 1950، وهو الدستور الدائم الذي جاء ليكرس الهوية العربية بوضوح أكبر، فقد نصت المادة الأولى على أن “سوريا جمهورية عربية مستقلة ذات سيادة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي وحدة سياسية لا تتجزأ”.

خلال فترة الوحدة مع مصر (1958–1961)، جاء دستور الجمهورية العربية المتحدة ليؤكد الهوية العربية بشكل أكثر صرامة، حيث أصبح اسم الدولة “الجمهورية العربية المتحدة”، وهو ما عمّق الإقصاء الدستوري للكورد. ثم صدر دستور 1969 المؤقت في ظل حزب البعث، الذي استمر في تكريس “العروبة” كأساس للهوية، ومهد لإصدار دستور 1973 الذي شكل محطة محورية في هذا السياق، حيث نصت المادة الأولى على أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة… وهي جزء من الوطن العربي”، كما نصت المادة الثامنة على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة”، ما أدى إلى تضييق المجال السياسي وإقصاء الكورد ثقافياًوسياسياً.

وفي دستور 2012، رغم إلغاء نص المادة الثامنة الخاصة بقيادة البعث، أبقى على الصياغة نفسها في المادة الأولى مؤكداً على أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات سيادة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي جزء من الوطن العربي”، فيما نصت المادة 33 على المساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. ومع ذلك، ظل هذا النص شكلياً إذ لم يترافق مع أي اعتراف باللغة الكوردية أو الحقوق الثقافية، مما يعكس التناقض بين المساواة النظرية والهوية العربية المفروضة دستورياً على جميع السوريين.

تأثير هذا النهج الدستوري كان واضحاً على الوضع الحقوقي والدستوري للكورد، حيث أدى إلى تهميش هويتهم القومية، والإقصاء اللغوي، والتمهيد لتشريعات تمييزية مثل الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في الحسكة الذي جرد عشرات الآلاف من الكرد من الجنسية ومن سياسات التعريب للقرى والمناطق الكوردية، بما يتناقض مع المواثيق الدولية مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل حقوق الأقليات. إضافة “العربية” إلى اسم الدولة في دساتير لاحقة لم تكن مجرد مسألة لغوية، بل كانت سياسة دستورية لإعادة تعريف الوطن على أساس أحادي، بينما أظهرت الفترات القصيرة التي لم تُذكر فيها كلمة “العربية” في الدساتير المؤقتة إمكانية اعتماد هوية وطنية أكثر شمولاً، لكنها لم تُستغل.

بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، تولى أحمد الشرع رئاسة الدولة خلال المرحلة الانتقالية. وفي 13 مارس 2025 صدر الإعلان الدستوري المؤقت (الدستور الانتقالي) ليشكل الأساس القانوني الجديد لسوريا لمدة خمس سنوات.

أن النصوص الدستورية الجديدة كرست “العروبة” بنفس الصياغات القديمة، من خلال تسمية “الجمهورية العربية السورية” و إنها لم تعترف بالتعدد القومي أو اللغوي في البلاد. فقد غاب الاعتراف باللغة الكوردية أو بالحقوق الثقافية للكورد، كما لم ينص على أي شكل من أشكال الشراكة القومية. وبذلك ظل الإعلان الدستوري المؤقت استمراراً لإقصاء المكونات غير العربية بدل من أن يشكل فرصة لإعادة تعريف الهوية الوطنية السورية بشكل جامع.

في النهاية نرى ان تاريخ الدساتير السورية منذ التأسيس حتى دستور 2025 المؤقت يكشف مساراً متصلاً من الإقصاء الدستوري للكرد. ان أي عقد اجتماعي مستقبلي في سوريا يجب أن يعالج هذه الإشكالية جذرياً عبر إعادة تعريف هوية الدولة بشكل مدني جامع يعترف بالتعدد القومي والثقافي، و عبر الاعتراف الدستوري بالتعدد القومي واللغوي كما فعلت العراق عام 2005 باعترافه بالشعب و اللغة الكوردية في الدستور لضمان حقوق المكونات والمواطنة الحقيقية.

المحامي محمد رشيد

السويد ٢٠٢٥ اغسطس ٢٨