
الجزء الأول: التجربة الدستورية العراقية.
لطالما شكّل القانون ركيزة أساسية في نهضة الشعوب، وحجر الزاوية في بناء الدول الديمقراطية وضمان استقرارها السياسي والاجتماعي. ومن هذا المنطلق، تم اختيار الدستور العراقي محوراً لهذه الدراسة، لكونه أول تجربة قانونية يتم فيها إدراج القضية الكوردية ضمن إطار دستوري، مما جعله محطة تأسيسية في مسار تثبيت الحقوق الكوردية كأحد أشكال حق تقرير المصير، بما يضمن حقوق الكورد ضمن إطار وطني موحّد، مع التركيز على الفيدرالية، والاعتراف بالهوية الثقافية، وإدارة الموارد، وحلّ النزاعات الإقليمية.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه التجربة من منظور قانوني وأكاديمي، وتقديم مقترحات دستورية لسوريا المستقبل، تضمن حقوق الشعب الكوردي ضمن دولة موحدة، ديمقراطية وفيدرالية، من خلال دراسة معمّقة لنصوص الدستور العراقي، وتحديد مكامن القوة والخلل، والاستفادة من التجربة التطبيقية في الواقع العملي.
لقد ساهم الكورد بدور فاعل في ترسيخ خيار الفيدرالية وضمان حقوق إقليم كوردستان، من خلال قيادات بارزة مثل جلال طالباني ومسعود بارزاني. كما كان للحاكم المدني بول بريمر دورٌ بارز في صياغة دستور حديث يُعدّ إنجازاً قانونياً مهماً على مستوى المنطقة.
ورغم هذه الجهود، فإن التطبيق العملي للدستور العراقي ظلّ دون مستوى التطلعات والرؤية التي وُضع لأجلها، على الرغم من الدعم الدولي، ولا سيما من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، عبر الدعم الفني والاستشاري والدبلوماسي.
أولاً: الأسس القانونية للاعتراف بالهوية الكوردية في الدستور العراقي.
يُعد الاعتراف الدستوري بالهوية الكوردية خطوة نوعية في مسار التعددية القانونية والسياسية. وقد نصّ الدستور العراقي في ديباجته على مظلومية الكورد بشكل صريح، حيث ورد:
“زحفنا لأول مرةٍ في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين، رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً في الثلاثين من شهر كانون الثاني من سنة الفين وخمسة ميلادية، مستذكرين مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة المستبدة.. ومستنطقين عذابات القمع القومي في مجازرِ حلبجةَ وبرزانَ والانفال والكورد الفيليين…”
تقرّ هذه الديباجة بالمظلومية التاريخية التي عاناها العراقيون بمختلف أطيافهم، وتُبرز خصوصية معاناة الكورد، بما يعكس رغبة في تجاوز الماضي، ودعوة لبناء مستقبل قائم على العدالة والمساواة ورفض الإقصاء.
كما ورد أيضاً في الديباجة:
نحنُ شعبُ العراق الذي آلى على نفسه بكلِ مكوناته وأطيافه ان يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه، إنّ الالتزام بهذا الدستور يحفظُ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادةً.
تُعد هذه الإشارة تأكيداً على مشروعية التعدد القومي، ومبدأ الإرادة الطوعية كأساس للوحدة الوطنية.
كذلك تضمّن الدستور مواد تؤكد على عدم جواز سنّ أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية، مع التأكيد المتكرر على احترام حقوق الإنسان، ما يعكس وعياً قانونياً عميقاً.
ومن ذلك ما ورد في:
المادة (1):
جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة، مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. ويُعد هذا الدستور ضامناً لوحدة العراق.
المادة (3):
“العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب…”
المادة (4):
أولاً: “اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويُضمن حق العراقيين في تعليم أبنائهم بلغتهم الأم…”
ثانياً: تحدد بنود استخدام اللغة الرسمية في الجريدة الرسمية، والمؤسسات الرسمية، والتعليم، وغيرها.
ثالثاً: تستعمل المؤسسات الاتحادية والمؤسسات الرسمية في إقليم كردستان اللغتين.
هذا الاعتراف الدستوري يُعد سابقة مهمة في المنطقة، يمكن استلهامها في السياق السوري من خلال:
– الاعتراف الدستوري باللغة الكوردية كلغة رسمية.
– ضمان حق التعليم باللغة الأم.
– إدراج عيد النوروز ضمن الأعياد الوطنية.
على أن تكون هذه الحقوق ملزمة قانونياً، مع إنشاء هيئات رقابية لضمان التنفيذ.
ثالثاً: الفيدرالية ومبدأ الحكم الذاتي
المادة (117):
يقر هذا الدستور، عند نفاذه، إقليم كردستان وسلطاته القائمة كإقليم اتحادي.
المادة (141):
“يستمر العمل بالقوانين التي تم تشريعها في إقليم كردستان منذ عام 1992…”
يمكن تبني نموذج مشابه في سوريا يمنح إقليم غربي كردستان حكماً ذاتياً ضمن نظام فيدرالي، بصلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائيّة واضحة، في إطار حكومة محلية منتخبة وبرلمان إقليمي.
المادة (121):
لسلطات الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقا لأحكام هذا الدستور، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية.
ويشمل ذلك:
تأسيس قوات أمن داخلية.
إدارة التعليم والثقافة.
تطوير العلاقات الاقتصادية والثقافية مع الخارج.
لكن وجود غموض في توزيع الصلاحيات، في المادتين (115) و (121) تسبب في نزاعات متكررة بين المركز والإقليم.
يمكن التوصية في سوريا بصياغة مواد دستورية دقيقة تُحدّد بوضوح الصلاحيات المركزية والإقليمية، مع إنشاء هيئة دستورية عليا لحل النزاعات.
رابعاً: تقاسم الموارد الطبيعية
المادة (112):
تنص على تقاسم إدارة الموارد الطبيعية بين الحكومة الاتحادية والأقاليم.
إلا أن خرق هذه المادة، كحرمان الإقليم من حصته من الموازنة الاتحاديّة ومن الرواتب والدواء، خلق توترات متكررة.
التوصية لسوريا: ضمان تقاسم الموارد بنسب واضحة، مع أفضلية لإقليم غرب كوردستان في إدارة موارده، وإنشاء هيئة مستقلة لضمان العدالة المالية.
خامساً: المناطق المتنازع عليها
المادة (140):
تنص على استكمال إجراءات التطبيع والإحصاء والاستفتاء لتحديد تبعية المناطق المتنازع عليها.
لكن عدم التنفيذ تسبب في استمرار النزاع. لذا، يجب على الدستور السوري تضمين:
– نصوص دستورية تعالج آثار التغيير الديموغرافي القسري في كل من عفرين وسري كانيه وكري سبي وكذلك “الحزام العربي” وتوطين عرب الغمر والإحصاء الاستثنائي.
– إشراف دولي على التنفيذ.
– جدول زمني ملزم.
– تعويض المتضررين والاعتراف بالمظلومية.
سادساً: دور الجيش وحظر الميليشيات
المادة (9) أولاً:
أ- تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو اقصاء وتخضع لقيادة السلطة المدنية وتدافع عن العراق ولاتكون اداة لقمع الشعب العراقي ولاتتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة .
ب- يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة.
المادة (138) فقرة ثالثاً– د:
ألّا يكون قد شارك في قمع الانتفاضة في عام 1991 أو في عمليات الأنفال، ولم يقترف جريمة بحق الشعب العراقي.
الدستور حرص على حصر مهام القوات المسلحة بالدفاع الوطني ومنع استخدامها لقمع الشعب، مع حظر تكوين الميليشيات، وهو ما تم خرقه لاحقاً، خاصة بعد التوجه العسكري للقوات العراقية وميليشيات الحشد الشعبي نحو كركوك عقب الاستفتاء، في انتهاك صريح للنص الدستوري.
التوصيات الدستورية لسوريا:
– حظر الميليشيات والمرتزقة.
– تشكيل جيش وطني موحد تحت سلطة الدولة، مع ضمان تمثيل جميع المكونات، ويتولى أبناء إقليم غربي كوردستان حماية الإقليم عبر قوة مستقلة، تنسق أمنياً وعسكرياً مع القيادة المركزية.
– تحييد مؤسسات الدولة، خاصة القوات المسلحة والنظام التعليمي، عن الانتماءات الحزبية والدينية، لضمان حياد الدولة ومنع الهيمنة الأيديولوجية والطائفية.
سابعاً: حماية التركيبة السكانية
المادة (18) فقرة خامساً:
لا تُمنح الجنسية العراقية لأغراض التوطين السكاني الذي يُخل بالتركيبة السكانية في العراق.
المادة (23) فقرة ثالثاً– ب:
يُحظر التملك لأغراض التغيير السكاني.
تكتسب هذه النصوص أهمية خاصةً في السياق السوري، في ظل محاولات تجنيس المرتزقة وإحداث تغييرات ديمغرافية.
تجنيس المرتزقة يُعد انتهاكاً للقانون الدولي، ويمسّ توازن النسيج المجتمعي، ويُشكّل تهديداً للسلم الأهلي.
ثامناً: التمثيل السياسي والقانوني للكورد.
أقرّ الدستور العراقي تمثيلاً للكورد في مؤسسات الدولة، مما عزز حضورهم السياسي.
وفي السياق السوري، ينبغي:
– تخصيص نسبة محددة من المقاعد البرلمانية والمناصب السيادية للكورد.
– تضمين نصوص دستورية تحظر التمييز العرقي.
– ضمان مشاركة الكورد الفعالة في القرار الوطني.
وأخيراً، يُعد الدستور العراقي نموذجاً قانونياً متقدماً في الاعتراف بالقضية الكوردية، غير أن قصور التنفيذ العملي حوّله إلى وثيقة غير مكتملة. وتستلزم هذه التجربة مراجعة نقدية متوازنة تجمع بين تثمين الإنجازات وتحديد الثغرات، لصياغة دستور سوري شامل وعادل، يعترف بالتعدد القومي ويضمن الحقوق السياسية والثقافية للشعب الكوردي على أساس حق تقرير المصير ضمن دولة ديمقراطية فيدرالية موحّدة.
المحامي محي الدين نعمان




