
العدالة الانتقالية: مدخل لتحقيق السلم الأهلي وبناء مجتمع مستقر
تُعدّ العدالة الانتقالية إحدى الركائز الأساسية لأي عملية تحوّل ديمقراطي في الدول الخارجة من الحروب أو النزاعات المسلحة، أو تلك التي عانت من أنظمة ديكتاتورية قمعية. فهي ليست مجرد آلية لمعالجة انتهاكات الماضي، بل أداة لبناء مستقبل أكثر عدالة واستقراراً قائم على محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وإنصاف الضحايا، وصياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لمرحلة من المواطنة والكرامة.
من الضروري أن تكون العدالة الانتقالية شاملة وكاملة، لا منقوصة ولا انتقائية، حتى تؤدي دورها الحقيقي في تحقيق السلم الأهلي. ينبغي أن تشمل محاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات، بغضّ النظر عن انتمائهم السياسي أو العسكري، سواء أكانوا من النظام السابق أم من المعارضة. فلا يمكن التمييز بين الضحايا، ولا يجوز التساهل مع طرف على حساب آخر، لأن ذلك يزرع بذور الفتنة ويهدد أي فرصة لبناء مجتمع متماسك.
في الحالة السورية، لا يمكن اختزال الانتهاكات في طرف واحد. فعلى الرغم من حجم الجرائم التي ارتكبها النظام، فإن بعض فصائل المعارضة المسلحة مارست أيضاً انتهاكات بحق المدنيين. تجاهل هذه الحقائق أو التعامل معها بانتقائية يفرغ العدالة من معناها، ويقوّض فرص المصالحة الوطنية.
إذا ما طُبّقت العدالة الانتقالية بشمولية ونزاهة، فإنها قادرة على إعادة بناء مجتمع يقوم على المواطنة المتساوية والعدالة، والانتقال إلى مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها، على أسس قانونية وأخلاقية تحفظ حقوق الجميع دون استثناء.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن هذا ممكن. رواندا، على سبيل المثال، تمكنت من تجاوز مآسي الإبادة الجماعية بفضل عدالة انتقالية شاملة لم تستثنِ أحداً، مما مكّنها من تحقيق الاستقرار والنمو. وعلى الجانب الآخر، فشلت دول غابت فيها هذه العدالة، فعادت إلى العنف والانقسام.
وفي الختام، لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي إلا من خلال عدالة انتقالية حقيقية لا تستثني أحداً، ولا تتحيّز لطرف دون آخر، وتراعي آلام الضحايا كافة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو القومية أو السياسية.
وهنا يبرز السؤال: هل ستكون سوريا من بين الدول التي نجحت في تطبيق العدالة الانتقالية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟
أتمنى ذلك، لأن الشعب السوري يستحق العدالة، ويستحق أن يعيش في وطن يحفظ كرامته وحقوقه، ويجمع أبناءه تحت مظلة واحدة، عنوانها: المواطنة والمصالحة والإنصاف.
فبالعدالة يحيا الإنسان، وبالمظلومية يُقهَر.
المحامي رشيد عيسو




