أسلاف الكورد ودورهم في تشريع القوانين
المحامي محمد ملا​
آخرون يقرأون الآن

إعداد وتقديم المحامي محمد ملا 

لأسلاف الكورد القدامى دور تاريخي مشهود في سن القوانين وبناء الحضارة الإنسانية، إشتهر العديد من ملوك الكورد بتحقيق العدالة و تشريع القوانين ونشر ثقاقة المحبة والسلام والتسامح في ارجاء المعمورة وضربوا صوراً من الشجاعة والبسالة المنقطع النظير في رد العدوان عليهم، من أمثال الملك أورنمو (مشرع القانون ) والملك الميدي (دياكو) وفراورتيس(خشتارين) وكيخسرو وأرديشير والملكة نفرتيتي في مصر و الملك كريمخان الزند (مملكة الزند)والسلطان العادل صلاح الدين الأيوبي. 

سنتطرق الى بعض من قوانين أسلاف الكورد من بينها قانون (اورنمو) وهي كلمة سومرية (أور) يعني المدينة أو المكان و(نمو) تطابق بالكوردي وتعني( نامه) أي (وارنامه) وهي الرسالة او كتاب المدينة، رسالة الالهة الى مدينة أور في بلاد الرافدين و يُعدّ من أقدم القوانين التي عرفتها البشرية إذ سبق قانون حمورابي بثلاثة قرون قبل الميلاد حيث عثر على قسم من الألواح التي تضمنت هذا القانون في مدينة (نفر) والقسم الآخر منها في مدينة ( أور) ، وقد كتب باللغة السومرية وتعود هذه القوانين إلى الفترة ما بين (2100-2050). اما مقدمة القانون جاء فيها: 

(( لقد قررت الآلهة أن تنشر المساواة على الأرض و لذلك فقد اختارت الآلهة و فوضت (أورنمو) المحارب الجبار ملك اور و ملك (سومر واكد) ليمثلها على الأرض و يقيم العدل وينشر المساواة بين الناس، انا اورنمو! سأقضي على الفساد الاداري و الاقتصادي المتمثل بسرقة حقوق الناس، وسأثبت نظام المكاييل و الموازيين حتى لا تحدث حالات إستغلال لعامة الشعب، وسأنبذ العنف و النزاع و الاساءة، فلن أسلم اليتيم الى الرجل الغني، ولن أسلم الأرملة الى الرجل القوي، و الرجل الذي يملك شيكل واحد كالرجل الذي يملك مينا واحدة (المينا الواحدة تساوي 60 شيكل) ، الإثنين لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات ، وسأحقق العدل لتعم الحرية في بلاد سومر وآكد ، انا أورنمو ملك أور الجبار أنا العبقري الحامي لمدينتي الذي يعمل كحارس امين، أضع قيوداً على جميع الدول الأجنبية المعادية، وأغلق الطريق إلى سومر بمسامير قوية والشر لا يمكن أن يمر )). 

وقانون أورنمو بالمقارنة مع قوانين حمورابي فنرى أن أورنمو يقبل التعويض وحمورابي يشدد دوماً في العقوبة وكمثال على ذلك -قانون حمورابي في المادة 200(( اذا قلع رجل سن رجل من طبقته ، فعليهم ان يقلعوا سنّه)). 

أما في قانون اونمو : المادة 19(( اذا كسر رجل سن رجل آخر ، فعليه ان يدفع كغرامة شيقلين من الفضة لكل سن )). 

ثم من أهم المبادئ التشريعية لأسلاف الكورد هي تعاليم النبي زرادشت (551- 628) ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩ، وكانت ديانته توحيدية تدعو إلى عبادة الإله الواحد وهو آهورمزدا وكان له كتاب سماوي أسمه ( آفستا ) وتعاليمه إنتشرت في العديد من بقاع العالم و تنص تعاليم الديانة الزرادشتية الواردة في كتاب آفيستا المقدس بشكل واضح وغير قابل للتأويل على إحترام العهود والإلتزام بالاتفاقيات المبرمة حتى مع أتباع الديانات الأخرى وعدم خرقها بأي شكل من الأشكال، وهذا هو التفسير الوحيد لسجايا غالبية الكرد في إحترام الكلمة والعهود وإحتقار الخيانة والخنث بالعهد كونه مرفوض أخلاقياً ودينياً. 

أثر هذا المبدأ على العديد من الشعوب المجاورة، ولاسيما تشريعاتها، فلم يستطع القانون الروماني تجاوزه ، وغدا أحد مبادئ قانون العقود الروماني ويعتبر (ميثرا) في الزرادشتية هو حالياً للعهود والقوانين.  

وكم كان المؤرخ الروسي القدير داندامايف م.أ على حق عندما وصف بدقة الدور الحضاري للأمبراطورية الميدية بالنسبة للشعوب الإيرانية على هذا النحو: كانت ميديا في القرن السابع ق.م مركزا للحضارتين الروحية والمادية بالنسبة للشعوب الإيرانية،الذي قام الفرس لاحقاً بتطويره، ذكر المؤرخ ديورانت في قصة الحضارة: كيف أن الفرس أخذوا من الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدّتها ستة وثلاثين حرفاً، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع، وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب، ودين زردشت وعبادة الاله الواحد آهورا مزدا ، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من التماثل مما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن ( شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ).أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر، إحتوت المؤلفات الميدية على الكثير من الأفكارالدينية، الفلسفية، الأخلاقية و القواعد القانونية، التي انتقلت بدورها للفرس والعرب ومن ثم بعد غزوات اسكندر المقدوني وتأسيس الحضارة الهيلينية في أسيا إلى اليونان وأوربا، سوف نستشهد على سبيل المثال وليس الحصر ببعض الأحكام القانونية الواردة في الكتب الميدية القديمة والتي نجد الأن إنعكاساً أو مثيلاً لها سواء في الأنظمة والتشريعات الوطنية أو الدولية: 

1- الفضيلة هي الحكمة، لأن العلم والعمل أصل الصفات الحسنة في البشر والكرم أول الفضائل فالكريم عادل وهو يعلم أن الإنذار بالعقوبة أو توقيعها غير جائزين إلا بعد التثبت من حدوث الجرم من الجاني، كما انه يعلم بوجوب العدل مع العدو الذي يحاربه، ونجد هذا المبدأ القانوني الهام جدا سواء في التشريعات الوطنية الحديثة أو المعاهدات الدولية، حيث صيغ بالشكل التالي: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه [المادة الحادية عشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان] فيما يتعلق بحقوق الانسان وحق تقرير المصير وغيرها من المسائل الحيوية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والعديد من المعاهدات واللوائح الدولية، وتأكيداً على المصدر الزرادشتي لمبدأ الإلتزام بالعقود، نستشهد ب ياشت رقم 10،الفقرتين 1-2 من كتاب أفيستا،حيث يخاطب الإله الحكيم آهورا مزدا المعلم الأول زردشت قائلاً: آه يا سبي دا مه لا تخرق العهود أبداً، فالإلتزام بها يشمل سواء العهود المعقودة مع أنصار الكذب أو مع أتباع آشا من نفس العقيدة، لأن الإتفاق ساري المفعول للطرفين، ومن المفيد أن نذكر أن العقيدة الميثرائية، التي ظهرت هي الأخرى في كردستان وثم انتقلت إلى الشعوب المجاورة بما فيها الرومان ، تعني وفي شخص ميترا إله العقود ووجوب الإلتزام بها ، أما مؤسسة الأوقاف لدى الزرادشتيين في العهدين الميدي والساساني كان لديهم نوعين من الأوقاف :  

أ‌- أوقاف بوصفها مؤسسة دينية صرفة لا تتوخى الربح بمؤسسات وقفية تسعى للربح والكسب المشروع ، أقيمت تلك المؤسسات ليس بمبادرة من الملك فقط، وإنما كل انسان ميسور وثري كان من حقه إنشائها، وفق القوانين النافذة والمعمولة بها[ كبساتين الفواكه والخضار وزراعة كروم العنب وانتاج النبيذ من المحصول وبيعه]. ونظم القانون الزرادشتي في العهد الساساني نسبة الثلث من أملاك الشخص، التي كان يجب توظيفها في هذا النوع من الوقف، ومن الجدير ذكره أن الأرباح الوارد من ريع هذه المؤسسات كان يتم صرفها من قبل أقرباء الموتى للإعتناء بالمزارات والقبور والقيام بالطقوس الزرادشتية المعهودة، وتحتفظ الجاليات الزرادشتية في إيران والهند والكثير من الدول الأخرى بنفس التقاليد إلى يومنا هذا، يقول المؤرخ العبقري ريتشارد فراي في رائعته( فارس حتى حلول الإسلام) الصادرة في عام 1975 عن مسألة العثور على الكتابات القانونية اليونانية في كردستان ما يلي: لا نستغرب إذا عرفنا انه تم العثور على كتابات يونانية في سوسة[ سلوقيا] ونهاوند[لاوديكيا ]،حيث عاش هنا اليونانيين،ولكن إكتشاف وثائق قانونية في كردستان مكتوبة باللغة اليونانية ولم يرد فيها ولا إسم يوناني، حيث تظهر تأثير اللغة اليونانية في آسيا، ان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الميديين وفيما بعد الكردستانيين كان لديهم تراث حضاري لا يستهان به في مجال الفقه والتشريع وحركة ترجمة من وإلى اللغات الأخرى بالرغم من كافة حملات الإقتلاع والإبادة الثقافية والجسدية، يقول الفيلوسوف والكاتب الفرنسي العبقري وأحد أركان عصر النهضة الأوربية فولتير عن تعاليم زرادشت وتأثيرها على النظم الأخلاقية و التشريعية اللاحقة مايلي: إننا نجد في كتاب زند كيف يدعو زردشت المؤمنين إلى الإلتزام بمحبة الوالدين ومساعدتهما والعطف على الفقراء وعدم الإخلال بالوعد وعدم الإقدام على عمل ما إذا كنت مشكوكاً في عدالته وأحقيته، إنني أقف بصورة خاصة عند هذا الإرشاد الأخلاقي الأخير، لأنه لم يكن هناك أبداً وعلى مر التاريخ أي مشرع أو قانوني تنصل من هذا المبدأ، وموضوع البحث هو كتاب قانوني محدد تحت اسم، ماديكاني هزار دادستان[Madikani Hazar dadistan]، أي الكتاب الميدي ذات ألف فقه تشريعي، وهناك بعض المؤلفين يكتبون عنوان الكتاب بشكل آخر مثل: ماذيكاني هزار دادستان ، بيد ان هذا لا يغير من جوهر الموضوع أبداً ولا يؤثر على أصل الكتاب كونه ميدي بالرغم من أن الفرس حاولوا تحريف عنوان الكتاب بإضافة بعص الحروف، أو تحوير اسم الكاتب للإيحاء بأنه فارسي وليس ميدي، ولكن هيهات لأن الأسماء الميدية واضحة تماما وليس من الصعب التعرف عليها، فاسم الكاتب أو منظم تلك القوانين والتشريعات هو” فاروه ماردي فاهرمان” ولكن في حقيقة الأمر اسمه بالشكل التالي “فاروه ماد قهرمان” لأن اسم قهرمان أي البطل كلمة ميدية صرفة ، ماتزال تستخدم في اللغة الكردية الحديثة وهي غير موجودة في اللغة الفارسية، وعن هوية الكتاب وكونه يضم بين دفتيه أجزاء كبيرة من القانون الميدي لايخالجنا أدنى شك، فليست هناك أية وثيقة تاريخية تثبت أن الفرس لهم إنجازات سواء في ميدان التشريع أو مجالات أخرى قبل احتلال ميديا.  

سنأتي الى ذكر أن الكورد أسسو الامبراطورية الحورية الميتانية وكانت عاصمتها غوزانا (تل حلف، راس العين) حكمت السلالة الميتانية نحو 1475 ق.م و 1275 ق.م، الحوري يدل على الشعب الحوري وميتانيا مفهوم سياسي للدولة التي أسسها الحوريون  

يرتا (Kirta)هو مؤسس مملكة ميتاني وقد يكون عاش في حوالي عام 1500 قبل الميلاد، إلا أنه لحد الآن لم يتم إكتشاف أي نقوشات تعود الى فترة حكم هذا الملك، وبلغت قوة وإزدهار مملكة ميتاني أوجّها في عهد هذا الملك من مدينة (ألالاخ) من الغرب، كانت تشترك مملكة ميتاني في الحدود مع مصر في غرب كوردستان الحالي وكان نهر العاصي يفصل الدولتين عن بعضهما البعض، كان مركز المملكة يقع في حوض نهر الخابور، حيث تقع العاصمة (واشوكاني). في عهد هذا الملك كانت آشور و (أرابخا) في الشرق ممالكاً تابعة لمملكة ميتاني، حاول الحثيون غزو الأقسام الشمالية من مملكة ميتاني، إلا أنه تمت هزيمتهم من قِبل الملك الميتاني (شوتارنا). بعد وفاة هذا الملك خلّفه في الحكم إبنه (أرتاشومارا) في ظروفٍ مُلتبسة، كانت عاصمة الميتانيين (واشوكاني) والتي تقع على منابع الخابور والاسم قريب من (باشكاني ) وهي كلمة كوردية باش يعني الخير أو الثروة وكاني وتعني المنبع او المورد(مورد الثروة ) وسري كانيي بنيت في موقع واشوكاني ، وتشير المعلومات إلى أن التشريع في إمبراطورية ميتاني، تأثر بالقوانين والممارسات في المناطق المجاورة، وخصوصًا الحضارات التي سبقتها حيث كانت مملكة ميتاني تهيمن على شمال بلاد الرافدين وتستخدم نظام إدارة مركزية لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية، ولكن المصادر التاريخية لا تقدم تفاصيل دقيقة حول نصوص قانونية محددة. 

من أبرز مميزات التشريع في مملكة ميتاني تشمل: 

1-التأثر بالتقاليد المحلية والإقليمية: 

التشريع الميتاني استمد الكثير من مبادئه من العادات والتقاليد السائدة في المنطقة، بالإضافة إلى التأثيرات القانونية من الحضارات المجاورة مثل الحيثيين والآشوريين. 

أ-عدم وجود مجموعة قوانين مدونة بشكل كامل كانت 

القوانين عبارة عن مزيج من الأعراف والقرارات القضائية التي تعتمد على الظروف الفردية. 

ب-التركيز على تنظيم المجتمع والعلاقات الاجتماعية. 

كانت القوانين تهدف إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي وتنظيم العلاقات بين الأفراد، بما في ذلك الزواج، والميراث، وحقوق الملكية. 

2- دور الملك في إصدار الأحكام : كان للملك دور مركزي في إصدار الأحكام القضائية، وكان يعتبر الحكم الصادر عنه نهائيًا. 

3- وجود طبقة من القضاة والمسؤولين كانت هناك طبقة من القضاة والمسؤولين الذين يساعدون في تطبيق القوانين والفصل في النزاعات. 

4-التركيز على العدالة والمساواة: كانت القوانين تهدف إلى تحقيق العدالة بين جميع المواطنين وتطبيق المساواة في الحقوق والواجبات. 

5-المشاركة السياسية: أتاحت القوانين مشاركة واسعة في الحياة السياسية دون تمييز، مما يعكس نظامًا حكمًا متقدمًا. 

6-حماية الحقوق الفردية: سعت القوانين إلى حماية حقوق الأفراد وضمان حرياتهم في إطار القانون، مما يعزز الاستقرار والتقدم. 

بشكل عام كان من مميزات قوانين أسلاف الكورد تتميز بالمرونة وتحقيق العدالة والمساواة وحماية الحقوق والاهتمام بالقانون الإداري وغيرها من القوانين ويتبين خاصة في التشريع الميدي والميتاني. وقد استفاد منها الكثير من التشريعات كالقانون الروماني وغيرها، و نراها في صلب مبادئ حقوق الإنسان وهناك العديد من القوانين والتشريعات التي وضعت في أزمنة متعاقبة في مراحل تاريخ أسلاف الكورد وللأسف فهناك شح في المصادر التي يجب أن نعتمد عليه في هذا المبحث يلزمنا الكثير من الدراسات والأبحاث والحصول على المصادر كي نتوسع في البحث . 

المصادر: 

-موضوع يستحق قراءته لاهميته التاريخية حيث يبين دور التشريعي للامبراطورية الميدية الكوردية في تطوير الانظمة القانونية اللاحقة بقلم الدكتور آلان قادر ( التشريع الميدي ودوره في تطوير الأنظمة القانونية اللاحقة) 

د.آلان قادر 

-من بعض أبحاث د.ضياء رجب في مجال اللغة الكوردية والتاريخ الكوردي . 

– ميتاني واسطة Joshua J. Mark، تمت ترجمته بواسطة Al-Hussain Al-Tahi منشور في موقع موسوعة تاريخ العالم . 

-نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (11) – أسلاف الكورد: الخوريون – الميتانيون 6. ملوك مملكة ميتاني (القسم الأول) منشور على موقع كوردبيديا  

د. مهدي كاكه يي 

-تاريخ وحضارة مملكة ألالاخ الميتانية – الكردية – دراسة تاريخية – الحلقة الرابعة والأخيرة – بيار روباري منشور في صوت كوردستان العدد 7 مارس 2025