من الثورة الفرنسية إلى ميثاق الأمم المتحدة: تطور مبدأ حق تقرير المصير
من الثورة الفرنسية إلى ميثاق الأمم المتحدة: تطور مبدأ حق تقرير المصير
آخرون يقرأون الآن

يعد حق تقرير المصير من المبادئ الجوهرية التي كرسها القانون الدولي الحديث. وهو الحق الذي يمنح لجماعات وشعوب معينة، ولا يمنح للأفراد منفردين. ويتيح هذا الحق للشعوب اختيار شكل السلطة التي تهدف الي تحقيق تطلعاتهم وتحديد نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحرية ومن دون إملاءات أو تدخلات خارجية .

هذا المصطلح ارتبط منذ نشأته بجماعات بشرية يجمعها اللغة ذاتها والثقافة المشتركة، وتستوطن أرضاً محددة
أي تنحدر من قومية واحدة. وقد تجسد عبر التاريخ إما في إعلان قيام دول قومية مستقلة، أو في منح بعض الشعوب حق الحكم الذاتي ضمن كيانات اتحادية فدرالية.

حق تقرير المصير ومراحل تطوره :

يرى بعض المفكرين أن جذور مبدأ حق تقرير المصير تعود إلى بدايات الثورة الفرنسية، ويبدو أن هذا الرأي الأكثر صواباً ، إذ ارتبطت الثورة آنذاك بشعارات الحرية والسيادة الشعبية وحق الشعوب في اختيار مصيرها

١. الثورة الفرنسية (١٧٨٩)
شكلت نقطة تحول كبرى في الفكر السياسي الحديث
حيث أكدت أن الشعب وحده هو مصدر الشرعية.
ووضعت الأسس النظرية والعملية للديمقراطية، وحقوق الإنسان ودولة القانون والمواطنة، وهي الركائز التي يقوم عليها الفكر السياسي الحديث.وهذا ادى إلى الأساس الذي يقوم عليه حق تقرير المصير.

٢. مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى
للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون دور بارز في ترسيخ مبدأ حق تقرير المصير على الساحة الدولية خاصة بعد الحرب العالمية الأولى. فقد طرح هذا المبدأ في خطابه الشهير المعروف بـ المبادئ الأربعة عشر سنة (١٩١٨)حيث أكد على حق الشعوب في اختيار شكل الحكم الذي تريده بعيداً عن الهيمنة الخارجية وإملاءاتها.

وقد ساهم هذا الطرح في إدخال المبدأ إلى النقاشات الدولية، وأثر بشكل مباشر في صياغة معاهدات السلام وتأسيس عصبة الأمم، مما جعله أحد الأسس المرجعية لتطور القانون الدولي في ما يتعلق بحقوق الشعوب والأمم. أهم ما جاء فيها:
•حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي.
•إقامة سلام عادل قائم على العدالة والحرية.
فقد أصبح المبدأ من السياسة الدولية الرسمية بفضل مبادئه الاربعة عشر.

٣. ميثاق الأمم المتحدة (١٩٤٥)
•نصت المادة الأولى من الميثاق على مقاصد الأمم المتحدة، ومن أبرزها:
. حفظ السلم والأمن الدوليين
. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها
. تعزيز التعاون الدولي واحترام حقوق الإنسان بلا تمييز.

٤. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (١٩٦٦)
•جاء في مادته الأولى:لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

أنواع حق تقرير المصير

١- تقرير المصير الداخلي
يمنح الشعب الحرية في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ضمن الدولة القائمة.
•يأخذ أشكالاً مثل:
الحكم الذاتي، الفيدرالية
أو اللامركزية ( الإدارية أو السياسية أو الاثنين معاً) .
بهذا يكون الشعب مشاركاً حقيقياً في سلطة تهدف الي تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة.

٢- تقرير المصير الخارجية
انفصال شعب عن الدولة وتأسيس دولة مستقلة.
يمارس في حالات :
الاستعمار
الاحتلال الأجنبي
اضطهاد الدولة لفئة معينة من الشعب
الحرمان التام من الحقوق الأساسية.

إن طرح مبدأ حق تقرير المصير لا يعني بالضرورة الانفصال أو تأسيس دولة مستقلة، بل قد يمارس ضمن إطار الدولة القائمة عبر أشكال متعددة من المشاركة السياسية أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية. وبذلك يشكل تطبيق هذا المبدأ تأكيداً على قيم الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام إرادة الشعوب، لا وسيلة للتجزئة والانقسام .

غير أن الإشكال يكمن في أن مبدأ حق تقرير المصير، وغيره من المفاهيم الديمقراطية، لا يستوعب في كثير من الأحيان على نحو صحيح في بعض المجتمعات الشرقية. فبدل أن ينظر إليه كآلية تمنح الشعوب حرية اختيار مستقبلها، تقوم بعض الأنظمة الحاكمة بتفريغه من مضمونه الحقيقي، وتصور لشعوبها أن المطالبة به تؤدي إلى تفكك الدول، لتجعل منه وسيلة لتثبيت سلطتها واستمرارية حكمها، بدلاً أن يكون أداة لترسيخ الديمقراطية وتعزيز سيادة القانون.

إن حق تقرير المصير هو حق قانوني وإنساني يهدف إلى تمكين الشعوب من اختيار مصيرها بحرية، بما يضمن كرامتها وحريتها. ووسيلة لبناء مستقبل قائم على العدالة والإنصاف.
ولمعرفة آليات تطبيق هذا الحق في منظمة الأمم المتحدة، يمكن الرجوع إلى مقالات متخصصة
مثل دراسة الأستاذ محي الدين نعمان .

المحامي رشيد عيسو