
إعداد: المحامي عماد الدين شيخ حسن
مقدمة:
شهد الساحل السوري في شهر آذار/مارس ٢٠٢٥ واحدة من أبشع موجات الإجرام والعنف الطائفي التي هزّت المجتمع السوري منذ اندلاع النزاع. ارتُكبت خلالها جرائم قتل جماعي وتهجير وخطف واستهداف ممنهج للفئات الأضعف.
ورغم هول وخطورة وجسامة ما وقع، فقد عجزت السلطة السورية الحاكمة حالياً، عن الوفاء بأبسط واجباتها الأساسية في الحماية والمنع والمحاسبة، بل إن شواهد عديدة تشير إلى تواطؤ مباشر منها أو غير مباشر من أجهزة مرتبطة بها.
لذلك سنسعى من خلال هذا التقرير لأن نقارن بين تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة آب/أغسطس ٢٠٢٥ وتقرير لجنة تقصي الحقائق المحلية تموز/يوليو ٢٠٢٥، ليتكشف لنا بوضوح أوجه المسؤولية والتقصير من طرف السلطة ، وكذلك نقاط القوة والقصور في عمل اللجنة الدولية نفسها.
مقارنة بين التقريرين
أولاً: في نقاط التوافق
هناك اتفاق ظاهر من كلا التقريرين على حجم الكارثة وعدد الضحايا (قرابة ١٤٠٠ قتيل).
وهناك كذلك إقرار في كلا التقريرين بوجود عنف طائفي موجه ضد المدنيين.
التقرير الدولي يشير الى غياب أدلة “قانونية قاطعة” على صدور أوامر مركزية من القيادة السياسية العليا، وبطبيعة الحال، التقرير المحلي ينفي كذلك وجود تلك الأدلة.
المطالبة بالمحاسبة وإنصاف الضحايا.
ثانياً: في نقاط التعارض
التقرير الدولي وصف الانتهاكات بأنها “واسعة النطاق ومنهجية” تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، بينما اكتفى التقرير المحلي بوصفها “أعمالاً فردية وانتقامية”.
التقرير الدولي سمّى فصائل وتشكيلات بعينها مثل لواء السلطان سليمان شاه وفرقة الحمزات، بينما تهرّب التقرير المحلي من أي تسمية وتحاشى ذكرها من منطلق اندماج تلك الجهات في الجيش الجديد التابع للحكومة الانتقالية.
التقرير المحلي اكتفى بعدّ أعداد الموقوفين (٢٩٨) كدليل على المحاسبة، فيما أكد التقرير الدولي أن هذه الإجراءات شكلية وتفتقر للشفافية، ولم تمسّ القيادات.
التقرير الدولي كشف ملفات حساسة مثل اختطاف النساء والزواج القسري، بينما تجاهلها التقرير المحلي تماماً وبالكامل.
من حيث المنهجية: اللجنة الدولية اعتمدت مصادر متنوعة وحيادية نسبياً (٢٠٠ مقابلة، صور أقمار صناعية، أدلة مفتوحة المصدر)، بينما بقي التقرير المحلي أسيراً لتحقيقات داخلية موجّهة.
ثالثاً: في مسؤوليات الدولة وتواطؤها
الفشل المتعمد في الوقاية والحماية: كان من الواضح أن التوتر بلغ ذروته بعد عملية ٦ آذار/مارس، ومع ذلك لم تنتشر قوات كافية لحماية القرى والأحياء المستهدفة، وهو ما لا يمكن وصفه بالقصور فحسب، بل بالامتناع المتعمد عن أداء الواجب.
التواطؤ مع التشكيلات المسلحة: وثّقت اللجنة الدولية تورط مجموعات مرتبطة بالأجهزة الأمنية والجيش الرديف في القتل والخطف والتعذيب. وهذا يرقى إلى مستوى المسؤولية المباشرة للدولة عن جرائم تلك التشكيلات.وهذه نقطة غاية في الاهمية والدلالة، وينبغي الوقوف عندها وتوضيحها أكثر من خلال ابراز ما يلي:
١-السيطرة الفعلية: هذه الفصائل لم تكن تعمل في فراغ، بل تحت إشرافٍ مباشر أو غير مباشر من أجهزة أمنية رسمية أو ضمن ترتيبات عسكرية مرتبطة بالسلطة.
٢- الدعم والإسناد: ثبت تقديم السلاح والذخيرة والتسهيلات اللوجستية لهذه التشكيلات من جهات حكومية، ما يثبت علاقة وكالة أو ارتباط وظيفي.
٣- التقصير المتعمد: حتى لو جادلت السلطة بغياب أوامر مكتوبة، فإن استمرار تلك الفصائل بالعمل في مناطق سيطرة الدولة، دون ردع أو محاسبة، يمثل تواطؤاً صريحاً وامتناعاً متعمداً عن أداء واجب الحماية.
ومنه نستخلص….. أن تسمية هذه التشكيلات في تقرير لجنة التحقيق الدولية يقطع الطريق على أي ادعاء بأن أحداث الساحل كانت مجرد “فوضى محلية”. على العكس، يظهر بوضوح أن السلطة سمحت، وربما شجّعت، فصائل رديفة على تنفيذ هجماتٍ واسعة النطاق ضد المدنيين.
وبذلك فإن مسؤولية الدولة السورية مزدوجة:
مسؤولية مباشرة عن أفعال وكلائها وأذرعها المسلحة.
مسؤولية غير مباشرة عن إخفاقها في منع الجرائم والتحقيق فيها ومحاسبة قياداتها.
– التلاعب بالتحقيقات: إعلان توقيف مئات الأفراد كان أقرب إلى دعاية سياسية منه إلى مساءلة فعلية، إذ لم تُوجّه الاتهامات للقيادات المتورطة، ولم يُسمح بالرقابة المستقلة.
– إخفاء الأدلة والتستر على الجرائم: فشلت السلطات في حماية مواقع المقابر الجماعية وحفظ الأدلة الجنائية، ما يرقى إلى طمس متعمّد للحقيقة، ويهدد فرص العدالة المستقبلية.
– مسؤولية الدولة القانونية الدولية: حتى في غياب قرار سياسي مركزي، فإن الدولة مسؤولة بموجب القانون الدولي عن الأفعال التي ارتكبها وكلاؤها أو مجموعات خاضعة لسيطرتها الفعلية، وعن إخفاقها في الحماية والمحاسبة.
رابعاً: في مدى مهنية وقصور لجنة التحقيق الدولية
في جوانب القوة
١-اعتماد منهجية متعددة المصادر (مقابلات، صور أقمار صناعية، أدلة مفتوحة المصدر).
٢-نشر التقرير علناً باللغات الأساسية، مع أسس قانونية واضحة.
٣-توصيف الجرائم بما يتماشى مع القانون الدولي (جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب).
في جوانب القصور والمسؤولية
١-الاعتماد الكبير على الشهادات دون إمكانية التحقق الميداني المباشر بسبب غياب النفاذ إلى الأراضي، مما فتح الباب أمام ثغرات وتناقضات.
٢-العجز عن مواجهة الدولة بشكل مباشر: اكتفت اللجنة بعبارة “غياب أدلة قاطعة على سياسة مركزية”، وهو توصيف قد يُستخدم كذريعة لإعفاء القيادة السياسية من المسؤولية، رغم توافر نمط واضح للهجمات.
٣-الاقتصار على التوصيات العامة دون الضغط الكافي لفتح مسارات مساءلة دولية أو إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية.
٤-المسؤولية الأدبية والأممية: اللجنة وإن كانت مقيدة بولايتها، تتحمل مسؤولية أخلاقية بعدم الاكتفاء بالحياد البارد، بل كان عليها أن تسمي بوضوح أكبر مواقع التقصير ومسؤوليات الدولة.
خامساً: هل كانت هناك سياسة ممنهجة أو دور مباشر للسلطة؟
الادعاء بعدم وجود “أدلة قاطعة” على سياسة مركزية لا يعني براءة السلطة الحاكمة، بل يعكس حدود صلاحيات اللجنة وصعوبة النفاذ.
تكرار الأنماط (قتل جماعي، خطف، تهجير، زواج قسري) لا يمكن أن يكون محض صدفة أو مبادرات فردية؛ بل يشير إلى تنسيق على مستوى الأجهزة الأمنية والفصائل الرديفة.
مسؤولية الدولة لا تحتاج لإثبات “قرار مكتوب”؛ بل يكفي إثبات السيطرة الفعلية والتقاعس المتكرر عن الحماية والمحاسبة.
سادساً: الخلاصة والتوصيات
تواطؤ الدولة وتقصيرها واضحان: من خلال الامتناع عن الحماية، تورط التشكيلات المسلحة، التستر على الأدلة، وتوجيه التحقيقات لخدمة الدعاية.
اللجنة الدولية مهنية جزئياً لكنها متحفظة مفرطة: أدّت عملاً مهماً، لكنها قصّرت في تسمية المسؤوليات السياسية المباشرة والدفع نحو مسارات قضائية.
لا يكفي القول بغياب سياسة مركزية: نمط الانتهاكات يكفي لتوصيفها كجرائم ضد الإنسانية.
في التوصيات:
فتح مسارات تحقيق دولية مستقلة خارج إطار الدولة السورية.
إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء آلية خاصة.
إلزام الدولة السورية قانونياً بحماية الأدلة وضمان وصول مستقل إلى مواقع الجرائم.
إنشاء صندوق تعويضات للضحايا وضمان جبر الضرر.
دعوة المجتمع الدولي لممارسة ضغوط أقوى على السلطات السورية لوقف الإفلات من العقاب.
خاتمة:
إنّ أحداث الساحل السوري في آذار/مارس ٢٠٢٥ لم تكن مجرد مأساة محلية، بل محطة كاشفة. فقد مثّل الصمت الدولي والتقاعس عن التحرك بعد تلك الجرائم رسالة واضحة للسلطة السورية بأن الإفلات من العقاب مضمون، وأن المجتمع الدولي عاجز عن حماية المدنيين. هذا الخذلان لم يوقف آلة الانتهاكات، بل على العكس، فتح الباب أمام تكرار السيناريو في السويداء ضد أبناء الطائفة الدرزية، حيث شهدنا نمطاً مشابهاً، لا بل أكثر بشاعة، ربما، من القتل والخطف والترويع تحت أنظار الدولة وبتواطؤ منها.
وما جرى في الساحل والجنوب يجد صداه أيضاً في المأساة المستمرة التي يعيشها الكورد في الشمال، من خلال التهجير القسري والتغيير الديموغرافي والانتهاكات اليومية التي مارستها وتمارسها فصائل مرتبطة بالسلطة أو مدعومة ضمن ترتيبات إقليمية مثل تركيا، في ظل غياب أي حماية أو مساءلة حقيقية.
إنّ الخيط الناظم بين هذه الوقائع جميعها هو واحد:
إفلات الدولة من العقاب بعد أحداث الساحل شجّعها على التمادي في السويداء.
صمت العالم على ما يجري للكورد أبقى الباب مفتوحاً أمام سياسات التهجير والتطهير.
استمرار هذا النمط يعني أن السلطة ليست مجرد طرف متقاعس، بل فاعلٌ مباشر في إدارة العنف وتوظيفه ضد مختلف المكوّنات السورية.
وبذلك، فإن المسؤولية اليوم تقع ليس فقط على عاتق الدولة السورية وسلطة الامر الواقع فيها، التي تمارس التواطؤ والخذلان، بل أيضًا على المجتمع الدولي الذي سمح بالصمت أن يتحول إلى شراكة غير مباشرة في الجريمة.
المانيا.
٢٠٢٥.٨.١٨




