
يتضح من ديباجة #الدستور_التركي، لا سيما في المواد (1، 2، 3)، تركيزٌ مكثف على فكرة “الوجود الأبدي” للدولة والأمة التركية، وهو تصور يعكس توجهاً أيديولوجياً أحادياً، رغم أن الوجود التركي والتركماني في عموم المنطقة لا يتجاوز ألف عام. كما تؤكد هذه المواد على مبدأ “الوحدة غير القابلة للتجزئة” للدولة والشعب، وهو ما يُفهم ضمنياً على أنه نفي لأي إمكانية لاستقلال أو تحرر كوردستان من الهيمنة التركية، وهي إشارة ضمنية تتكرر في مواضع دستورية عديدة.
يُلاحظ أيضاً التركيز اللافت على تقديس شخصية أتاتورك، حيث يُذكر اسمه في مواد دستورية كثيرة، مما يعكس محاولات مستمرة لترسيخ عقيدة الجمهورية الكمالية، وحصر الهوية الوطنية في إطار اللغة والثقافة التركية فقط.
وقد أُضفيت على هذه المبادئ صفة “القدسية”، وجعلت بمثابة مبادئ فوق دستورية، تُعاد الإشارة إليها في عدد من المواد اللاحقة، مما يعكس قلقاً مضمَراً من التعددية العرقية، وخاصة القضية الكوردية.
وتكمن ثغرة دستورية هامة في غياب نص صريح يمنع تعديل أو إلغاء المادة الرابعة من الدستور، التي تنص على عدم جواز تعديل المواد الأساسية الأولى، وهي مادة أُضيفت في سياق تاريخي مثير للجدل. وبهذا فإن إمكانية إلغاء المادة الرابعة قانونياً تُشكل مدخلاً لإعادة النظر في المواد الثلاث الأولى، بما يفتح الباب أمام إصلاح دستوري جذري.
أما في ظل الإبقاء على هذه المواد دون مساس، فإن أي تعديل سيبقى شكلياً، دون أن يعترف بالكورد كقومية أو يمنحهم حقوقهم المشروعة.
وتحت مظلة حماية “#حقوق وحريات الآخرين”، كما يرد في الدستور، تُرتكب عملياً انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، خاصة في ما يتعلق بالشعب الكوردي. فالسوابق التاريخية تشير إلى سجلٍ سلبي في التعامل مع الكورد، يشمل عمليات إبادة جماعية، وتهجير الملايين إلى الأناضول، وتدمير ما يقارب 4000 قرية كوردية، وهو ما يتنافى كلياً مع مبادئ حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
أما المادة العاشرة، والتي تنص على المساواة أمام القانون، فهي من حيث المبدأ إيجابية، إلا أن التطبيق العملي يكشف عن تمييز مؤسسي ضد الكورد، يتمثل في إنكار الهوية الكوردية، واضطهادها ثقافياً، ومنع استخدام اللغة الكوردية رسمياً حتى مطلع التسعينيات. كما أن “قانون الألقاب” الذي أدى إلى تتريك الألقاب الكوردية، يعد خرقاً واضحاً لمبدأ المساواة، ويمثل انتهاكاً للكرامة الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية، في تناقض صارخ بين النص الدستوري والواقع الميداني.
حرية التعبير ونشر الفكر
المادة 26 – لكل إنسان الحق في التعبير عن أفكاره وآرائه ونشرها، فردياً أو جماعياً، بالقول أو الكتابة أو الصورة أو غير ذلك من الوسائل. وتشمل هذه الحرية أيضاً حرية تلقي المعلومات والأفكار أو نقلها دون تدخل من السلطات الرسمية. ولا يحول حكم هذه الفقرة دون خضوع البث الذي يتم عن طريق الإذاعة أو التلفزيون أو السينما أو ما شابهها لنظام التصاريح.
يجوز تقييد ممارسة هذه #الحريات لأغراض الأمن الوطني، والنظام العام، والسلامة العامة، وحماية الخصائص الأساسية للجمهورية، وسلامة الدولة غير القابلة للتجزئة بأراضيها وأمّتها، ومنع الجرائم، ومعاقبة المجرمين، وعدم إفشاء المعلومات التي تم إعلانها وفقاً للأصول كسِر من أسرار الدولة، وحماية سمعة الآخرين أو حقوقهم، أو حياتهم الخاصة والعائلية، أو أسرارهم المهنية المنصوص عليها في القانون، أو لضمان الأداء السليم للواجبات القضائية.
أ. حرية الصحافة
المادة 28 – #الصحافة حرة، ولا يجوز فرض الرقابة عليها. كما لا يجوز ربط إنشاء مطبعة بالحصول على ترخيص أو دفع ضمان مالي.
(تم إلغاء الفقرة الثانية: 3/10/2001 – 4709/10 مادة)
وتتخذ الدولة التدابير اللازمة لضمان حرية الصحافة والإعلام.
وتُطبَّق في تقييد حرية الصحافة أحكام المادتين 26 و27 من الدستور.
كل من كتب أو طبع أو نقل إلى الغير، لغرض معين، أخباراً أو كتابات من شأنها تهديد الأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، أو وحدتها الوطنية بأراضيها وأمتها، أو تحريضاً على الجريمة أو التمرد أو العصيان، أو تتعلق بمعلومات سرية تخص الدولة، يُعد مسؤولاً عن هذه الجرائم وفقًا لأحكام القانون…
يجوز، بقرار من القاضي، مصادرة النشرات الدورية أو غير الدورية في الحالات التي بدأت فيها التحقيقات أو الملاحقة في الجرائم المنصوص عليها في القانون، وفي الحالات التي يكون فيها التأخير ضاراً بحماية سلامة الدولة غير القابلة للتجزئة بأراضيها وأمّتها، أو بالأمن الوطني، أو النظام العام، أو الآداب العامة، أو منع الجرائم. ويجوز أن تصدر المصادرة بأمر من السلطة المخولة صراحةً بموجب القانون. وعلى الجهة المختصة التي قررت الحجز، أن تخطر القاضي المختص بقرارها خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر، فإذا لم يصادق القاضي على القرار خلال مدة أقصاها ثمانٍ وأربعون ساعة، يُعتبر قرار الحجز باطلًا.
تنطبق الأحكام العامة على ضبط ومصادرة المطبوعات الدورية أو غير الدورية بسبب التحقيق الجنائي أو الملاحقة القضائية.
يجوز إغلاق الدوريات المنشورة في تركيا مؤقتاً بأمر من المحكمة، إذا أُدينت بنشر منشورات تتعارض مع وحدة الدولة غير القابلة للتجزئة بأراضيها وأمّتها، أو المبادئ الأساسية للجمهورية، أو الأمن القومي، أو الأخلاق العامة. ويُحظر إصدار أي مطبوعة تُعد استمراراً واضحاً للدورية المغلقة، ويتم سحبها بموجب قرار من القاضي.
الحق والواجب في التعليم والتدريب
المادة 42 – لا يجوز حرمان أي شخص من حقه في التعليم والتدريب.
يُحدَّد نطاق الحق في التعليم ويُنظَّم بموجب القانون.
ويُنفذ التعليم والتدريب وفقاً لمبادئ وإصلاحات أتاتورك، وطبقاً لمبادئ العلم والتعليم المعاصر، وتحت إشراف الدولة وسيطرتها. ولا يجوز إنشاء مؤسسات تعليمية أو تدريبية تتعارض مع هذه المبادئ.
إن حرية التعليم والتدريب لا تُلغي واجب الولاء للدستور.
… لا يجوز تدريس أي لغة غير اللغة التركية، أو تدريسها كلغة أم للمواطنين الأتراك، في المؤسسات التعليمية والتدريبية.
من خلال تحليل هذه المواد، يتضح التناقض الجوهري بين النصوص الدستورية التي تُظهر التزاماً ظاهرياً بحرية التعبير وحرية الصحافة، وبين الممارسات الفعلية على أرض الواقع، حيث تشهد تركيا سجلاً مثقلاً بانتهاكات حقوق الإنسان، لا سيما في قمع حرية التعبير وملاحقة الصحفيين والمعارضين، كما توثقه تقارير منظمات حقوقية دولية مرموقة.
كما أن العبارة المتكررة ‘سلامة الدولة غير القابلة للتجزئة بأراضيها وأمّتها’ تُستخدم كأداة قانونية مرنة، تستغل لتجريم كل من يخالف السياسات الرسمية أو يطالب بحقوق جماعية، لا سيما تلك المتعلقة بالقومية الكوردية.
هذا المفهوم، الذي يرد في أكثر من موضع في الدستور، يشكل في التطبيق العملي وسيلة قانونية تُستخدم لتقييد الخطابات السياسية والثقافية المناوئة للنهج الرسمي، خارج الإطار القومي التركي الموحّد.
أما فيما يتعلق بحق التعليم، فإن قصر التعليم على اللغة التركية، ورفض الاعتراف بالكوردية كلغة تعليمية، يُعد انتهاكاً صريحاً لمبادئ حقوق الإنسان، ويتعارض مع المادة 30 من اتفاقية حقوق الطفل، التي تضمن حق الأطفال المنتمين إلى أقليات قومية أو لغوية في استخدام لغتهم، وكذلك إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية (2007) الذي ينص على حق الشعوب الأصلية في تأسيس مؤسسات تعليمية واستخدام لغاتها الأصلية في جميع مراحل التعليم.
وهنا تبرز إشكالية جوهرية تتعلق بكيفية تمكين #الكورد من تلقي التعليم بلغة تختلف عن لغتهم الأم دون أن يشكل ذلك عائقاً جوهرياً أمام تكافؤ الفرص وتحقيق الذات؟
وإذا ما استُحضر السياق التاريخي والقانوني، فإن معاهدة لوزان لعام 1923، التي تُعد من الأسس القانونية لتشكيل الجمهورية التركية، قد ضمِنت في قسمها الثالث (حماية #الأقليات) بعض الحقوق الأساسية لغير المسلمين، لا سيما في المواد 38 إلى 42.
ففي المادة 38، أُقِرّ مبدأ الحماية الكاملة لجميع السكان، دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو اللغة.
أما المادة 39، فقد نصّت على وجوب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك الذين لا يتحدثون اللغة التركية، بما يتيح لهم استخدام لغاتهم الخاصة شفوياً في أمام القضاء، وهو ما يعني عملياً حصر الاعتراف باستخدام اللغات غير التركية في السياق القضائي فقط، دون أن يمتد إلى مجالات التعليم أو الحياة العامة.
وقد نصّت المادة 41 على ما يلي:
فيما يتعلق بالتعليم العام، ستمنح الحكومة التركية، في المدن والمقاطعات التي تقيم فيها نسبة كبيرة من المواطنين غير المسلمين، تسهيلات كافية لضمان توفير التعليم الابتدائي لأطفال هؤلاء المواطنين الأتراك بلغتهم الخاصة. ولن يمنع هذا البند الحكومة التركية من فرض تعليم اللغة التركية إلزامياً في تلك المدارس.
إلا أن المادة 42 من الدستور التركي تتناقض صراحةً مع مضمون المادة 41 من معاهدة لوزان، إذ تقصُر التعليم في المؤسسات التعليمية التركية على اللغة التركية، دون السماح باستخدام لغات أخرى كلغات تعليمية.
ويُظهر الغموض الذي يكتنف معاهدة #لوزان، خاصة في استخدامها لمصطلح “الأقليات” للإشارة إلى المكونات الدينية غير المسلمة فقط، تجاهلاً متعمّداً للهوية القومية الكوردية التي كانت معترفاً بها صراحةً في معاهدة سيفر عام 1920.
إن هذا التجاهل يُعد طمساً مقصوداً لحقيقة أن الكورد ليسوا أقلية دينية، بل مكوناً قومياً رئيسياً في الجغرافيا التي تخضع للسيطرة التركية.
إن حرمان الكورد من حق التعليم بلغتهم الأم يعكس تمييزاً لغوياً وثقافياً ممنهجاً، يتنافى مع المعايير الدولية، ويتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون، ويتناقض مع جوهر النصوص التي تدّعي حماية الأقليات، مما يقوّض الأسس الديمقراطية والتعددية التي يزعمها الدستور التركي.
بقلم المحامي محي الدين نعمان




